وفجأة ...كل رجال دشرتنا وقعوا في غرام عيشه ..عيشه بنت أبو رويشه
تبدت عيشه الفاتنة مطلية على كلح جدران ملتقى طرق ولد اماه وتمدد ظلها
الممشوق مع جميع الشوارع مخترقا سوكوجيم موغلا في أحشاء بغداد وعرفات ،مزهوة
بشفتيها الرقيقتين وقوامها البديع
ترنحت تفرغ زينه ونسائم هوى عيشه تتسلل ،عذبة فائحة كالموت الجميل
الأخاذ ،كالعطر السحري ،كالحلم الطفولي الحنون الهارب ،وارتفعت الأصوات مصرة هادرة
جبارة مكتسحة :
ـ نحب عيشه ... نريد عيشه ....
عيشه بنت بورويشه ،الغزالة الحوراء المحرمة ، الغادة الشموس ... جميلة
جميلات الدرب الأخضر ...حبيبة الصبوة المشبوبة ، معشوقة الجماهير
وتدفق على الأرصفة شباب وفيلة وغلمان وأشباح ،لا يعرفون ركودا ولا
هجوعا ،يصرخون بحماس مرعب :
ـ عيشه ..نحب عيشه ..نريد عيشه ...!
اهتز ميدان مسجد المغرب وميدان مدريد ، وكل الحواري المحيطة تحت الأقدام
المصرة العمياء ،والعاشقة ...
وتفشى الوباء ...الجنون ..الجمال ..الجوى .
ـ فيم ترغب يا ولدي العزيز شفاك الله ،خاطب أب فلذة كبده المريض .
ـ أبي ...أريد عيشه !
اشتعلت المدينة بالغضب والصبابة ،وهانت الحياة .
تدفق سيل العاشقين ،أرتالا ..أرتالا ،ثم موجات ،طوفان عارم أعمى ،أًخذ
العامة بحبائل فتنة عيشه ،أعترض الطلاب على الدرس والتحصيل ،أقصى ما يبلغ المرئ من
السعادة أن ينال عيشه !
فر العساكر المتدربون زرافات ومواحيد ،انبثق أبناء الأغنياء جاحظين
تحت الشمس السافعة ،تجمهر الحمالون بقاماتهم المديدة المتعبة ،مات الشعر سوى
مايردد عن ضفائر عيشه ،وما كان من لوحة جميلة إلا تلك التي شخصت بها الغانية
اللعوب وقد جمعت يديها وكشفت عن مساحة عريضة من صدرها .
ما استطاع خطيب الجمعة إلا أن يشق الصمت عن صوت الجماعة التي شغفتها ذات
الوجه المليح ..
وانزلقت الروايات إلى تخوم عوالم الجمال المخصب من استلهام عيشه ..
طار صواب الحكومة ،فتوثبت للرد ،وبجيش لجب من الشرطة عاذت ..ضرب
وتفريق واعتقالات ..ماالجدوى ؟ حتى المطربون صدحت حناجرهم مستدعية صوت الشاب خالد
:
عيشه ..عيشه ..آنا نبغيك !
أما التماثيل فما فتئت أن نبت بها مجالسها على المنصات الإسمنتية ،فغادرتها
منساقة مع الجموع الغفيرة ،تلاشى أي نشاط للعمل ،وفكت أحلام الجنون من عقالها .
دوى شرر الفتنة فأصاب الحكومة ،قفز جمع غفير من المراكب السلطوية
المغرية ،بلغت الاستقالات عنان السماء ،الناس تعري الهامات ،تجري مناجية شعاع
الضوء ،قل الحكماء ،من بقي ظل يطرق على غطاء تابوت .
خفية ،خبيئة ،تخطو ،تجوس كالهواء ،تثير مكامن النفوس الألقة ..تغرس
الإبر في صفاء القلوب ..تخطو بعطرها ..بصداها ..بمنديل وردي راقص ،عيشه هناك ،بلون
المدى وصمت الأفق ،تتضوع بقعة أرض بكثافة وجودها ،حتى يرقص ماؤها ويصل حصاها ،تنشب
زرقة السماء داخل العيون المسلوبة ،إنها الإشارة لميلاد عيشه !
الزرقة صافية ،صافية ،تتهافت الجموع ،تجوب السبل ،هاهي المصبية على
صفحة أفق ،أخيرا تجلت كبرق ...فصلت عن المستحيل مؤقتا ..ظهرت قريبة مطواعة باسمة
..لعوبا
شقت الفرحة عن القلوب وحررتها للبياض والحياة ..سجد الناس لرب
العالمين ،وتملت الأبصار صورة الكمال والروعة ،هزج العالمون :عيشه ..عيشه..عيشه..
دون سابق ترصد وإصرار ..استقر سهم أعمى في نحر المعبودة الجميلة
..كانت ترفع المنديل مخضبة الخدود ،ونحو الشمس ترسل ضوءا نافذا ..لم تتهاوى كما
نموت نحن ،مادت الأرض وسقط الجمهور مترنحا .
عادت ربة الخفاء إلى ما فوق التحديق والإبصار !
وعاد رجال الدشرة للغرام البائس الظاهر ..اندلعت المناوشات والمخاصمات
الحامية ،ندم الملأ الذين أرسلوا السهم القاضي ،عفروا الرؤوس بالتراب ..ساطوا
ظهورهم بالحبال والسلاسل ..
دعت جماعة إلى نصب التماثيل والأيقونات من الذهب الصرف ..كان هناك من
اعتبرها شيخة صالحة مباركة ومضى يناجي الروح الشبابية المليحة ..
وجماعة قدست الموت ،وقالت بالنفس السعيدة المبغوتة بالفناء سهما
،وياحبذا تلف الأبدان في ميعة الصبا .
وما زالت الفرق تتفتق متراكمة تراكم السحب . الكاتب :عبد الله حرمه
0 التعليقات:
إرسال تعليق